
تأخذنا سورة النازعات في رحلة كونية وتاريخية ونفسية مذهلة، لترسخ في قلوبنا حقيقة البعث والجزاء. تبدأ السورة بمشهد مهيب للحظة الموت، حيث تقسم الملائكة وهي تؤدي مهمتها في نزع الأرواح، ثم تعرض لنا لمحة خاطفة من أهوال القيامة، وتنتقل بنا إلى قصة الطاغية الأكبر في التاريخ كعبرة، ثم ترفع أبصارنا إلى السماء والأرض كبرهان، لتصل بنا في النهاية إلى مشهد "الطامة الكبرى" والفرز النهائي بين أهل الجنة وأهل النار.
﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾
تبدأ السورة بقسم بخمسة أنواع من الملائكة، لتؤكد أن ما سيأتي بعدها حق لا ريب فيه. هذه الأقسام تصف حركتهم وهم ينفذون أمر الله، خاصة في قبض الأرواح. "النازعات" تنزع أرواح الكفار بعنف وشدة، و"الناشطات" تسل أرواح المؤمنين برفق وسهولة. ثم تصف سرعتهم وطاعتهم المطلقة. هذا القسم هو تمهيد ليوم البعث الذي يبدأ بالموت.
بعد أن تصف السورة هلع القلوب يوم القيامة، تقدم لنا مثالاً تاريخياً لمن أنكر هذا اليوم وطغى في الأرض. إنها قصة موسى مع فرعون.
يذكّر الله نبيه والمكذبين كيف أرسل موسى إلى فرعون الذي طغى، فكذّب وعصى، ثم جمع قومه وبلغ به الكبر والجنون أن أعلن: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾. فماذا كانت النتيجة؟ ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَىٰ﴾. أي عاقبه الله عقوبة غاية في الشدة في الدنيا (بالغرق) وفي الآخرة (بالنار)، ليكون عبرة لمن يعتبر.
بعد قصة فرعون، توجه السورة سؤالاً مباشراً لمنكري البعث: هل إعادة خلقكم بعد الموت أصعب أم خلق السماء؟ ثم تأخذنا في جولة كونية سريعة لنرى دلائل قدرة الله:
كل هذه الآيات العظيمة جعلها الله متاعاً لكم ولأنعامكم. فمن قدر على كل هذا الخلق العظيم، أيعجزه أن يعيد خلقكم من جديد؟
تصل السورة إلى ذروتها بوصف "الطامة الكبرى"، وهي الداهية العظمى التي تغطي على كل ما سواها: يوم القيامة. في ذلك اليوم، يتذكر الإنسان كل سعيه في الدنيا، وتُعرض النار بوضوح، وينقسم الناس إلى فريقين:
﴿فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ﴾. من تجاوز الحد، وفضل متعة الدنيا الفانية على الآخرة الباقية، فإن مصيره ومأواه هو النار.
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ﴾. ومن استحضر عظمة ربه وخاف مقامه يوم الحساب، فنهى نفسه عن اتباع شهواتها المحرمة، فإن مصيره ومأواه هو الجنة.
أقسم الله تعالى بطوائف من الملائكة الموكلين بقبض الأرواح وتنفيذ أوامر الله. 'النازعات' هي الملائكة التي تنزع أرواح الكفار بشدة وعنف، و'الناشطات' هي الملائكة التي تقبض أرواح المؤمنين برفق ونشاط. والقسم بهم يدل على هول لحظة الموت وحتمية وقوعها.
جاءت قصة فرعون كمثال عملي وتاريخي على عاقبة من يكذب بالآخرة ويطغى في الدنيا. ففرعون الذي بلغ به الكبر أن قال 'أنا ربكم الأعلى' هو النموذج الأكبر لمنكري البعث. فكانت قصته ومصيره عبرة لكل من يسير على دربه، وتأكيداً على أن قوة الله غالبة.
'الطامة الكبرى' هي اسم من أسماء يوم القيامة. وسميت بذلك لأنها تطم وتغطي على كل داهية قبلها. فهي المصيبة العظمى التي لا مصيبة فوقها، وهو اليوم الذي يتذكر فيه الإنسان كل ما عمله، وتُعرض فيه الجنة والنار، ويتقرر فيه المصير الأبدي.