يُعدّ الاصطفاء الإلهي من المفاهيم القرآنية العظيمة التي تُظهر عظيم حكمة الله وقدرته في اختيار من يشاء من عباده ليُعلي شأنهم، ويُكرمهم بفضله، ويُخصّهم بالنبوة والرسالة، أو بالصلاح والتقوى، أو بفضائل أخرى تميزهم عن غيرهم. وقد ورد ذكر الاصطفاء في مواضع عديدة من القرآن الكريم، ومن أبرزها قوله تعالى في سورة آل عمران، الذي يُحدّد بعض الأسر والذريات التي نالت شرف هذا الاصطفاء.
ذكر الله تعالى الاصطفاء الإلهي لآل عمران في سورة آل عمران، في قوله تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 33-34].
تُشير هذه الآية إلى أن الله تعالى اختار وفضَّل أربع مجموعات من البشر على العالمين، وهم: آدم، ونوح، وآل إبراهيم، وء.
اختلف المفسرون في تحديد المقصود بـ عمران الذي ينتسب إليه آل عمران المصطفون في هذه الآية، على قولين رئيسيين:
القول الأول (الأرجح والجمهور): أن المقصود بـ عمران هو عمران والد السيدة مريم العذراء، وجد نبي الله عيسى عليه السلام.
وعليه، فإن آل عمران المصطفين يشملون:
عمران: والد مريم، وكان رجلاً صالحًا من أحبار بني إسرائيل.
امرأته (حنة بنت فاقوذ): والدة مريم، وهي المرأة الصالحة التي نذرت ما في بطنها محرَّرًا لله.
مريم بنت عمران: السيدة العذراء الطاهرة التي اصطفاها الله وطهرها على نساء العالمين، وأكرمها بحمل وولادة عيسى عليه السلام بغير أب.
عيسى ابن مريم عليه السلام: نبي الله ورسوله، الذي أيده الله بالمعجزات الباهرة.
سبب ترجيح هذا القول: سياق الآيات التي تلي هذه الآية مباشرة في سورة آل عمران تتحدث عن قصة امرأة عمران ونذرها، ثم ولادة مريم، ثم تكفّل زكريا بها، ثم بشارة الملائكة لمريم بعيسى عليه السلام وميلاده. هذا الترابط الوثيق يجعل هذا القول هو الأقرب والأكثر اتساقًا مع السياق القرآني.
القول الثاني (مروي عن بعض السلف): أن المقصود بـ عمران هو عمران والد نبي الله موسى وهارون عليهما السلام.
وعليه، فإن آل عمران المصطفين يشملون:
عمران: والد موسى وهارون.
موسى عليه السلام: من أولي العزم من الرسل.
هارون عليه السلام: نبي الله وأخو موسى ووزيره.
وجه هذا القول: استدل أصحابه بأن كلاً من موسى وهارون كانا نبيين عظيمين، وأن نسلهم كان مباركًا.
الراجح والمختار هو القول الأول، لما ذكرنا من وضوح السياق القرآني الذي يليه، والذي يخصص الحديث عن آل عمران (أبوي مريم ومريم نفسها وعيسى).
يشير قوله تعالى على العالمين إلى أن هؤلاء الأسر والأنبياء قد تميزوا واصطفاهم الله وفضلهم على أهل زمانهم، أو على جميع الخلق بشكل عام، بخصائص ومناقب عظيمة، منها:
اصطفاء النبوة والرسالة: فآدم ونوح وإبراهيم وعيسى وموسى وهارون، كلهم أنبياء ورسل.
الطهارة والصلاح: تميزوا بالصلاح والتقوى والعفة، كما في قصة مريم العذراء.
الكرامات والمعجزات: خصهم الله بآيات ومعجزات باهرة كولادة عيسى بغير أب، والرزق الغيبي لمريم.
استمرارية الخير في الذرية: قوله: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ يؤكد على أن هذا الاصطفاء لم يكن لفرادى فقط، بل كان لبيوتات متعاقبة يحمل بعضها بعضًا في الصلاح والنبوات والفضائل.
إن اصطفاء آل عمران يُمثل دليلاً على قدرة الله وعظمته، وعلى أن الاصطفاء يكون على أساس التقوى والصلاح والإيمان، وليس على أساس النسب فقط. كما أنه يُسلط الضوء على مكانة السيدة مريم وعيسى عليهما السلام في الإسلام، ويُصحح المفاهيم الخاطئة حولهما.