
في قلب سورة القلم، يضرب لنا القرآن مثلاً حياً، وقصة قصيرة تهز الوجدان، إنها قصة أصحاب الجنة. ليست مجرد حكاية عن بستان احترق، بل هي درس بليغ عن نفسية الإنسان حين يمتلك النعمة، وكيف يمكن لنية سيئة مبيتة في ليل بهيم، أن تحول جنة غناء إلى أرض قاحلة مع طلوع الفجر. إنها قصة عن الشكر والبخل، وعن الاختبار بالنعمة، وعن سرعة العقاب، وعن جمال التوبة بعد فوات الأوان.
﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ...﴾
تبدأ القصة بتمهيد: ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ...﴾، فالله يخبرنا أن النعمة هي في حقيقتها "بلاء" أي اختبار وامتحان. كان هناك رجل صالح يملك بستاناً (جنة) عظيماً، وكان من عادته أن يطعم الفقراء والمساكين من ثماره يوم الحصاد. فلما توفي، ورث أبناؤه هذه الجنة، فوقعوا في الاختبار. فهل سيسيرون على نهج أبيهم الشاكر، أم سيستولي عليهم الطمع والبخل؟
اجتمع الإخوة ليلاً، وتآمروا على قرار خطير: ﴿إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ﴾. لقد أقسموا وحلفوا أنهم سيحصدون ثمارها في الصباح الباكر، قبل أن يستيقظ الفقراء ويأتوا لطلب حقهم. كان قرارهم مبنياً على ثلاثة أركان من الشر:
بينما كانوا يبيتون نيتهم السيئة وهم يغطون في نوم عميق، كان تدبير الله أسرع من تدبيرهم. ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ﴾. "طائف" هو عذاب نزل ليلاً فأحاط بالجنة من كل جانب. جاء العقاب صامتاً، خاطفاً، وشاملاً. وعندما أشرق الصباح، كانت النتيجة كارثية: ﴿فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾، أي أصبحت سوداء محترقة كقطع الليل المظلم، لا أثر فيها للحياة أو الثمر.
في الصباح، استيقظ الإخوة وهم لا يعلمون شيئاً، ونادى بعضهم بعضاً للذهاب سراً ﴿أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ﴾. فلما وصلوا ورأوا جنتهم حطاماً، كانت ردة فعلهم مراحل:
1. الإنكار والضياع: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ﴾. لم يصدقوا أعينهم، وظنوا أنهم أضاعوا الطريق ووصلوا إلى أرض أخرى.
2. الإدراك المرير: ﴿بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾. أدركوا أنهم ليسوا ضالين عن الطريق، بل هم المحرومون الحقيقيون الذين حُرموا من نعمة الله بسبب نيتهم السيئة.
3. صوت العقل: ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ﴾. نطق أفضلهم رأياً، والذي كان معارضاً لقرارهم، مذكراً إياهم: ألم أقل لكم هلّا تذكرون الله وتسبحونه وتستثنون بمشيئته؟
4. التوبة الجماعية: ﴿قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾. هنا كانت لحظة الصحوة، اعترفوا بتنزيه الله عن الظلم، وأقروا بظلمهم لأنفسهم. ثم أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، وأخيراً دعوا الله: ﴿عَسَىٰ رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ﴾.
هم إخوة ورثوا عن أبيهم الصالح بستاناً عظيماً. كان أبوهم يخصص جزءاً من ثماره للفقراء والمساكين. بعد وفاته، قرر الأبناء أن يمنعوا هذا الحق عن الفقراء ليزدادوا غنى، وأقسموا على ذلك. فعاقبهم الله بأن أرسل على جنتهم عذاباً ليلاً وهم نائمون، فأصبحت محترقة وسوداء.
ذنبهم لم يكن مجرد البخل، بل كان ذنباً مركباً: 1. النية المبيتة والجماعية على منع حق المساكين. 2. الكبر والغرور بالنعمة. 3. عدم ربط مشيئتهم بمشيئة الله، حيث أقسموا على ما سيفعلونه ولم يقولوا 'إن شاء الله' ﴿وَلَا يَسْتَثْنُونَ﴾. لقد نسوا أن الفضل من الله.
أهم الدروس هي أن النعم اختبار من الله، وأن الشكر الحقيقي للنعمة يكون بأداء حق الله وحق الفقراء فيها. كما تعلمنا القصة أن النية السيئة قد تكون سبباً في زوال النعمة حتى قبل ارتكاب الفعل، وأن باب التوبة مفتوح دائماً حتى بعد وقوع المصيبة، فالندم والاعتراف بالذنب هو أول طريق لإصلاح الحال.