الأربعاء، ٧ جمادى الأولى ١٤٤٧ هـ
الأربعاء، ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٥
facebookinstagramtwitter

رحلة إبراهيم الفكرية: بحثاً عن الرب في ملكوت السماوات

Prophet Img!

رحلة إبراهيم الفكرية: بحثاً عن الرب في ملكوت السماوات

في قلب * سورة الأنعام *، يأخذنا القرآن في رحلة عقلية فريدة مع أبي الأنبياء وإمام الموحدين، إبراهيم عليه السلام. إنها ليست قصة معجزة خارقة، بل هي قصة العقل البشري في أسمى تجلياته، والفطرة السليمة حين تبحث عن خالقها. هذه الآيات هي مناظرة صامتة، وحوار منطقي يستخدم فيه إبراهيم آيات الكون المنظورة كأدوات لهدم صروح الشرك، والوصول إلى حقيقة التوحيد المطلق.

1. المقدمة: نور اليقين في ملكوت السماوات

قبل أن تبدأ الرحلة، يخبرنا الله أنه هو من قادها. ﴿ وَكَذَٰلِكَ نُرِيٓ إِبۡرَٰهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ...﴾. لقد أراه الله عظمة ملكه وبديع خلقه، ليزداد قلبه يقيناً. ما سنراه من حوار لإبراهيم لم يكن بحثاً من ضلال، بل كان إظهاراً للحق وإقامة للحجة على قومه المشركين.

2. المحطة الأولى: أفول الكوكب

﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ﴾. في ظلمة الليل، رأى كوكباً لامعاً، فجارى قومه في منطقهم وقال: "هذا ربي". لقد اختار أصغر الأجرام السماوية ليبدأ به. لكن هذا الإله المزعوم لم يلبث طويلاً. ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾ أي غاب واختفى، نطق إبراهيم بالحكم العقلي الأول: ﴿قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾. الإله الحق لا يغيب، لا يختفي، ولا يترك مخلوقاته. لقد أسقط أول الأصنام.

3. المحطة الثانية: غياب القمر

﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ﴾. ظهر جرم أكبر وأكثر نوراً، إنه القمر. فكرر إبراهيم نفس الفرضية. لكن مصير القمر كان كمصير الكوكب. ﴿فَلَمَّا أَفَلَ﴾، لم يكتف بالرفض، بل أظهر حاجته إلى الهداية الإلهية: ﴿ فقَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴾. إنه يتقدم خطوة، فيدرك أنه بحاجة إلى رب حقيقي يهديه.

4. المحطة الثالثة: غروب الشمس

﴿ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ﴾. الآن جاء دور أعظم الأجرام السماوية المنظورة وأقواها نوراً وتأثيراً. "هذا أكبر". لقد عرض عليهم أكبر إله مادي يمكن تخيله. ولكن حتى هذا الإله العملاق، كان مصيره محتوماً. ﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ﴾، جاءت اللحظة الحاسمة. لقد أثبت بالدليل القاطع أن كل ما في الكون المنظور، من أصغره إلى أكبره، هو آفل ومتغير، فلا يصلح للعبادة.

5. الوصول: إعلان التوحيد الخالد

بعد أن هدم كل الأصنام السماوية، أعلن إبراهيم براءته من شرك قومه، ثم وجه وجهه وقلبه إلى الحقيقة التي وصل إليها بعقله وفطرته:

﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ

إنه إعلان عظيم. فهو لم يعد يعبد "ما يرى"، بل سيعبد "من لا يُرى" ولكنه هو الذي "فطر" أي خلق وأبدع كل ما يُرى. لقد انتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق. وأكد على أنه "حنيف" أي مائل عن كل باطل إلى الحق، وأنه بريء من المشركين.

6. أسئلة شائعة حول رحلة إبراهيم

هل كان إبراهيم عليه السلام شاكاً في وجود الله عندما نظر في الكواكب؟

لا، لم يكن شاكاً. إبراهيم عليه السلام كان حنيفاً بالفطرة. وإنما كان هذا أسلوباً ذكياً في الحوار والمناظرة مع قومه المشركين الذين كانوا يعبدون الكواكب. لقد أراد أن يأخذهم خطوة بخطوة في رحلة عقلية ومنطقية، ليثبت لهم بالدليل المشاهد أن هذه الأجرام السماوية التي يعبدونها لا تصلح أن تكون آلهة لأنها تغيب وتأفل، وبالتالي يقودهم إلى الإيمان بالخالق الباقي الذي لا يغيب.

ماذا نتعلم من قول إبراهيم 'لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ'؟

نتعلم قاعدة عقلية وإيمانية عظيمة. 'الآفلون' هم كل ما يغيب ويتغير ويزول. وهذه الكلمة تضع لنا مقياساً للإله الحق: الإله الحق لا بد أن يكون باقياً، دائماً، أزلياً، لا يتغير ولا يغيب عن خلقه. أما كل ما سوى الله من مخلوقات، فهي آفلة ومتغيرة، فلا تستحق العبادة أو التعلق القلبي المطلق.

ما هو إعلان التوحيد الذي وصل إليه إبراهيم في نهاية رحلته؟

بعد أن أثبت بطلان عبادة المخلوقات، وصل إلى إعلانه الخالد: ﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾. وهو إعلان بتوجيه كل العبادة والقصد للخالق المبدع للسماوات والأرض، والبراءة التامة من كل أنواع الشرك.