
في قلب القرآن الكريم، تتربع قصة فريدة، وصفها الله عز وجل بأنها "أحسن القصص". إنها سورة يوسف، السورة التي لا تروي أحداثاً متفرقة، بل تحكي لنا قصة حياة نبي كريم بشكل متكامل، بتفاصيلها الإنسانية العميقة وتقلباتها الدرامية المذهلة. نزلت هذه السورة تسلية لقلب النبي صلى الله عليه وسلم في "عام الحزن"، لتبقى عبر العصور بلسماً لكل مهموم، ومنارة أمل لكل مبتلى، ودستوراً في الصبر واليقين والنجاح.
وصف الله تعالى قصة يوسف بهذا الوصف الفريد لعدة أسباب، منها:
تتمحور السورة حول عدة مواضيع أساسية تشكل منهج حياة للمسلم:
يتجلى في صبر يعقوب عليه السلام على فقد ولديه، وصبر يوسف على كيد إخوته، وظلمة البئر، وفتنة امرأة العزيز، وسنوات السجن. إنه صبر لا شكوى فيه ولا جزع، بل رضا وتسليم ويقين بأن الفرج قادم.
مشهد يوسف عليه السلام وهو يرفض إغراءات امرأة العزيز قائلاً "مَعَاذَ اللَّهِ" يمثل قمة الطهر والعفاف، ودرساً خالداً في كيفية الانتصار على شهوات النفس خوفاً من الله وحباً له.
توضح السورة سنة إلهية ماضية، وهي أن التمكين والعلو في الأرض غالباً ما يأتي بعد سلسلة من الاختبارات والابتلاءات الشديدة التي تصقل المؤمن وتعدّه للمسؤولية الكبرى.
عندما أصبح يوسف في قمة السلطة وجاءه إخوته الذين ألقوه في البئر، لم ينتقم أو يعاتب، بل عفا بكلمات خالدة: "لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ". إنه قمة الأخلاق النبوية.
تأخذنا السورة في رحلة طويلة مليئة بالتقلبات، يمكن تلخيصها في المحطات التالية:
تبدأ القصة برؤيا عجيبة يراها يوسف الطفل، فيحذره أبوه من قصها على إخوته خوفاً من حسدهم. لكن الحسد يتملك قلوبهم، فيتآمرون عليه ويلقونه في بئر عميق.
ينجيه الله من البئر بأن تمر قافلة، فيبيعونه بثمن بخس ويصل إلى مصر، حيث يشتريه عزيز مصر ويكرمه ويتبناه في قصره، لتبدأ مرحلة جديدة من حياته.
يتعرض لأشد فتنة وهي فتنة النساء متمثلة في مراودة امرأة العزيز له، فيثبت ويعتصم بالله. ورغم براءته، يُلقى في السجن ظلماً، فيصبح السجن له مدرسة للدعوة والصبر.
يمنحه الله علم تأويل الأحاديث، فيفسر رؤيا الملك التي حيرت الجميع، ويكون ذلك سبباً في إظهار براءته وخروجه من السجن عزيزاً مكرماً، ثم يتولى خزائن مصر بأمانته وعلمه.
تتحقق الرؤيا، ويأتي إليه إخوته يطلبون المساعدة، فيعرفهم وهم له منكرون. وبعد أحداث مثيرة، يكشف لهم عن هويته ويعفو عنهم عفواً جميلاً، ثم يجتمع شمله بأبيه وأهله جميعاً في مشهد ختامي مؤثر.
"إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ"
هذه الآية هي خلاصة السورة ومنهجها. ومن أهم الدروس الأخرى:
لأنها قصة متكاملة اجتمعت فيها كل عناصر التشويق والجمال والدروس. تنتقل من محنة إلى منحة، ومن حزن إلى فرح، وتستعرض مشاعر إنسانية متنوعة كالحسد، والحب، والشهوة، والصبر، والعفو. ونهايتها تظهر انتصار الحق والخير، وتجسد تدبير الله الحكيم الذي يفوق كل كيد.
الدرس الرئيسي هو الثقة المطلقة في تدبير الله وحكمته. نتعلم أن المحن والابتلاءات قد تكون هي الطريق للمنح والعطاءات العظيمة. فالبئر والسجن كانا محطتين ضروريتين في طريق يوسف عليه السلام نحو التمكين والعرش. الدرس هو أن نصبر صبراً جميلاً ونحسن الظن بالله مهما اشتدت الكروب.
نعم، نزلت السورة في الأساس تسلية ومواساة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في عام الحزن. قراءتها وتدبر أحداثها تبعث الأمل في النفوس، وتُعلم المهموم أن بعد كل عسر يسراً، وأن فرج الله آتٍ لا محالة، وأن تدبيره هو الأفضل دائماً.
سورة يوسف ليست مجرد قصة تاريخية، بل هي رسالة حية من الله لكل قلب أنهكه الحزن، ولكل روح أثقلتها الهموم. إنها تهمس في أذنك: "لا تيأسوا من روح الله"، وتؤكد لك أن خيوط قصتك، مهما بدت معقدة ومؤلمة، هي في يد الحكيم الخبير الذي ينسج لك من محنتك منحة، ومن ألمك أملاً، ومن انكسارك تمكيناً يليق بصبرك ويقينك.