
في مواجهة ضغوط الحياة، وتيارات الشك، ومساومات أهل الباطل، من أين يستمد المؤمن ثباته وقوته؟ في *مطلع سورة الأحزاب *، يقدم لنا القرآن الكريم خارطة طريق من ثلاث خطوات، وجهها الله تعالى إلى نبيه ﷺ ليرسي من خلالها منهجاً أبدياً لكل أمته. إنها آيات التقوى، والاتباع، والتوكل، التي تتوج بواحدة من أروع الجمل القرآنية وأكثرها طمأنينة للقلب: ﴿وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا *وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾
يبدأ التوجيه بنداء مباشر وتشريف للنبي، ثم يأتي الأمر الأول والأساس: "اتق الله". وإذا كان النبي ﷺ وهو أتقى الخلق، يُؤمر بالتقوى، فهذا دليل على أنها زاد الطريق الذي لا يستغني عنه أحد. والتقوى هنا تعني الثبات على مخافة الله ومراقبته، وهي الدرع الأول الذي يحمي المؤمن. ويتبعها مباشرة النهي عن نقيضها: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾، أي لا تستجب لضغوطهم أو مساوماتهم التي تهدف إلى حرفك عن الحق.
بعد النهي عن اتباع أهل الباطل، يأتي الأمر باتباع المصدر الوحيد للحق. المسار واضح ولا يقبل التعددية: إنه الوحي المنزل من الله. هذه الآية تقطع الطريق على كل مصادر التلقي الأخرى التي تتعارض مع الوحي، سواء كانت أهواء النفس، أو تقاليد المجتمع، أو ضغوط الأعداء. الدستور الوحيد هو ما يوحى إليك من ربك.
ثم يأتي التعقيب الإلهي ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ ليذكرنا بأن هذا الاتباع ليس مجرد ادعاء، بل هو عمل وسلوك يراقبه الله الخبير بدقائقه وخفاياه.
هنا تكتمل الصورة. بعد أن تسلحت بالتقوى (الدرع الداخلي)، والتزمت بالوحي (خارطة الطريق)، قد يبقى في النفس خوف من العواقب، أو قلق من النتائج، أو ضعف أمام قوة الأعداء. فيأتي الأمر الثالث ليعالج هذا الجانب: "وتوكل على الله".
التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله في جلب المصالح ودفع المضار، مع الأخذ بالأسباب. فالمعنى: قم بواجبك في التقوى والاتباع، ثم ألقِ حمولك كلها على الله، وفوّض إليه أمر النتائج، ثق بأنه لن يخذلك ولن يضيعك.
هذه ليست خطوة رابعة، بل هي النتيجة الطبيعية والحتمية للتوكل. إنها خلاصة المنهج كله. "الوكيل" هو من تعتمد عليه وتفوض إليه شؤونك. والآية تقول لك: إذا جعلت الله وكيلك، فهو "كافيك".
إنها جملة تملأ القلب غنىً بالله، وطمأنينة لا حدود لها، وشجاعة في مواجهة العالم كله، لأن وكيلك هو الله، ومن كان الله وكيله، فمن ذا الذي يغلبه؟
هذا الأمر له عدة حكم عظيمة. أولاً، هو للتثبيت والتذكير، فالتذكير بالتقوى ينفع أعظم الناس. ثانياً، هو لبيان أهمية التقوى، فإذا كان النبي ﷺ مأموراً بها، فمن دونه من أمته أولى بهذا الأمر. ثالثاً، هو إشارة إلى أن مواجهة ضغوط الكفار والمنافقين تتطلب أعلى درجات التقوى والثبات.
التوكل هنا ليس مجرد اعتماد سلبي، بل هو منهج عمل متكامل. الخطوة الأولى هي اتباع أوامر الله ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ﴾، ثم بعد الأخذ بالأسباب، تأتي الخطوة الثانية وهي تفويض النتائج كلها لله بثقة تامة ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾. إنه صدق اعتماد القلب على الله مع عمل الجوارح بما يرضي الله.
هذه الآية هي مصدر طمأنينة لا مثيل له. 'الوكيل' هو من تفوض إليه أمرك وتعتمد عليه. والمعنى: إذا جعلت الله وكيلك، فهو يكفيك عن كل ما سواه. يكفيك همك، ويدبر أمرك، وينصرك، ويحميك. لا تحتاج إلى وكيل آخر، ولا إلى سند من البشر، فالله وحده كافٍ ليكون وكيلك في كل شؤونك.