الأربعاء، ٧ جمادى الأولى ١٤٤٧ هـ
الأربعاء، ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٥
facebookinstagramtwitter

سورة المنافقون: تشريح قرآني للعدو الخفي

Prophet Img!

سورة المنافقون: تشريح قرآني للعدو الخفي

في جسد الأمة، هناك أمراض قد تكون أخطر من العدو الخارجي الواضح. سورة المنافقون هي تشخيص إلهي دقيق لأخطر هذه الأمراض: النفاق. إنها سورة فاضحة، تكشف الستار عن "الطابور الخامس" في المجتمع المسلم الأول، وترسم لنا صورة نفسية وسلوكية متكاملة للمنافق. تبدأ السورة بكشف كذبهم، وتصف مظهرهم الخادع وجوهرهم الفارغ، وتفضح حقدهم، ثم تختتم بتوجيه تحذير بليغ للمؤمنين أنفسهم.

1. شهادة اللسان وكذب القلب

تبدأ السورة بمشهد يمثل جوهر النفاق. يأتي المنافقون إلى النبي ﷺ بأقوى صيغ التوكيد "نشهد إنك لرسول الله". ظاهرياً، هذا هو قمة الإيمان. لكن الله، الذي لا تخفى عليه خافية، يكشف الحقيقة فوراً. نعم، محمد رسول الله حقاً ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾، ولكن ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ﴾. كاذبون ليس لأن العبارة خطأ، بل لأن قلوبهم لا تصدقها.

2. تشريح شخصية المنافق: صفات تكشف المستور

تستمر السورة في رسم صورة دقيقة لهم:

﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾

سلاحهم هو القسم الكاذب، يتخذونه درعاً "جنة" يتقون به أحكام الإسلام ويخفون به كفرهم.

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ

مظهرهم خادع، لهم هيئة حسنة وفصاحة لسان تجذب السامع. لكن حقيقتهم المرة تأتي في التشبيه القرآني البليغ:

﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ

فهم كقطع الخشب الضخمة المسندة إلى الحائط، لا حياة فيها، لا فهم، ولا فائدة منها، مجرد هياكل فارغة.

﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ

بسبب جبنهم وشعورهم بالخيانة، يعيشون في رعب دائم، يظنون أن كل صوت أو حدث هو مؤامرة ضدهم. ثم يأتي التحذير الإلهي المباشر: "هم العدو" الحقيقي، فاحذرهم.

3. الحادثة الفاضحة: ﴿ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ

نزلت السورة على إثر حادثة وقعت في غزوة بني المصطلق، حيث تنازع رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار. فاستغل زعيم المنافقين، عبد الله بن أبي بن سلول، الموقف ليثير الفتنة وقال كلمته الحاقدة: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، يقصد بالأعز نفسه وأهل المدينة، ويقصد بالأذل (والعياذ بالله) رسول الله والمهاجرين. فرد عليه القرآن رداً حاسماً: ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.

4. نداء للمؤمنين: احذروا من نفس الداء

في ختام السورة، يتحول الخطاب من فضح المنافقين إلى توجيه نداء مباشر للمؤمنين. فبعد أن رأيتم أن أصل داء المنافقين هو حب الدنيا والكبر، فاحذروا أن تصيبكم عدوى هذا الداء:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ

إنه تحذير من أن الانشغال بجمع المال وتربية الأولاد قد يصبح لهواً يصد عن ذكر الله، وهذا هو باب الخسران، وبداية طريق يشبه طريق المنافقين.

﴿ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. ..﴾

والعلاج هو الإنفاق. أنفقوا من هذا المال الذي قد يلهيكم، قبل أن يأتي الموت فجأة، فيتمنى الإنسان لو أُعطي فرصة قصيرة ليتصدق ويكون من الصالحين، ولكن هيهات.

5. أسئلة شائعة حول سورة المنافقون

ما هي العلامة الأولى للمنافقين التي ذكرتها السورة؟

العلامة الأولى هي التناقض بين القول والاعتقاد. فهم يأتون إلى النبي ﷺ ويشهدون بألسنتهم أنه لرسول الله، ولكن الله يشهد أنهم لكاذبون في قلوبهم. ثم يتخذون هذه الشهادة الكاذبة درعاً 'جنة' يحتمون به من المسلمين ويخفون وراءه كفرهم.

ماذا يعني وصف القرآن لهم بأنهم 'خشب مسندة'؟

هذا تشبيه بليغ جداً. فهم كقطع الخشب الضخمة المسندة إلى الحائط، لها مظهر قوي ومنظر مهيب، لكنها في الحقيقة فارغة من الداخل، لا حياة فيها ولا فهم ولا ثمرة منها. وهذا يصف حالهم: أجساد جميلة وكلام معسول، لكن قلوبهم خاوية من الإيمان والحكمة.

ما هو التحذير الذي وجهته السورة للمؤمنين في ختامها؟

بعد فضح المنافقين الذين كان همهم الدنيا، وجهت السورة تحذيراً للمؤمنين الصادقين: ﴿ي َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ﴾. إنه تحذير من أن الانغماس في حب المال والأولاد قد يلهي عن ذكر الله، وهو باب من أبواب النفاق العملي. ثم أمرتهم بالإنفاق مما رزقهم الله قبل فوات الأوان.