
في قلب * سورة الكهف ، تبرز قصة عجيبة ومذهلة، إنها رحلة نبي الله وكليمه موسى عليه السلام، ليس لمواجهة طاغية، بل لطلب العلم. إنها **قصة موسى مع العبد الصالح (الخضر)*، رحلة تكشف لنا عن وجود أنواع من المعرفة تفوق إدراكنا، وأن وراء أقدار الله التي قد تبدو مؤلمة أو غير منطقية، تكمن حكمة ورحمة بالغة. إنها قصة تعلم الصبر، والتواضع، والتسليم لتدبير الله الحكيم.
﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا...﴾
بدأت القصة عندما خطب موسى عليه السلام في بني إسرائيل، فسأله أحدهم: "من أعلم أهل الأرض؟" فقال: "أنا". فعاتبه الله إذ لم يرد العلم إليه، وأخبره أن له عبداً عند مجمع البحرين هو أعلم منه. فانطلق موسى، نبي الله العظيم، بكل تواضع في رحلة طويلة وشاقة باحثاً عن هذا العبد الصالح ليتعلم منه.
عندما التقى موسى بالخضر، طلب منه بأدب جم أن يتبعه ليتعلم. فكان رد الخضر صادماً وواضحاً: لن تستطيع أن تصبر معي. لماذا؟ ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾. فالعلم الذي يملكه الخضر هو علم ببواطن الأمور وحقائقها، وهو ما يغيب عن موسى الذي يحكم بظاهر الشريعة. ومع ذلك، وعد موسى بالصبر، وبدأت الرحلة.
في هذه الرحلة، قام الخضر بثلاثة أفعال غريبة، كل فعل منها كان يمثل اختباراً لصبر موسى عليه السلام:
ركبا في سفينة لأناس مساكين نقلوهما بلا أجر، فقام الخضر بخرقها. فاعترض موسى فوراً: ﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾. لقد حكم موسى بالظاهر، وهو أن هذا إفساد واعتداء على من أحسن إليهم.
لقيا غلاماً يلعب، فقام الخضر بقتله. وهنا كان اعتراض موسى أشد وأعنف: ﴿أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا﴾. فقتل النفس البريئة هو من أكبر الكبائر في شريعة موسى.
وصلا إلى قرية بخيلة رفض أهلها أن يطعموهما، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض، فقام الخضر ببنائه وإقامته مجاناً. فاعترض موسى من باب المنطق العملي: ﴿لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾.
بعد المرة الثالثة، جاء وقت الفراق كما اتفقا. ولكن قبل أن يفترقا، كشف الخضر لموسى عن الحكمة الخفية وراء أفعاله التي لم يصبر عليها:
أما السفينة، فقد خرقها ليعيبها، لأن هناك ملكاً ظالماً كان يأخذ كل سفينة صالحة غصباً. فكان الخرق سبباً في نجاتها لأصحابها المساكين.
وأما الغلام، فكان كافراً، وكان أبواه مؤمنين، فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً، فأراد الله أن يبدلهما بمن هو أطهر وأكثر رحمة.
وأما الجدار، فكان تحته كنز لغلامين يتيمين في المدينة، وكان أبوهما رجلاً صالحاً، فأراد الله أن يحفظ لهما كنزهما رحمة بهما وبصلاح أبيهما.
كل فعل كان ظاهره الشر، لكن باطنه كان رحمة محضة وتدبيراً حكيماً من الله.
الخضر هو العبد الصالح الذي وصفه القرآن بأنه ﴿ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾. اختلف العلماء في كونه نبياً أم ولياً صالحاً، والراجح أنه نبي يوحى إليه بعلم خاص يتعلق ببواطن الأمور وحكمتها، وهو علم يختلف عن علم الشريعة الظاهرة الذي كان عند موسى عليه السلام.
الدرس الأهم هو التواضع العلمي، وإدراك أن علم الإنسان مهما بلغ فهو محدود. وأن عليه أن يصبر على أقدار الله التي لا يفهم حكمتها الظاهرة. القصة تعلمنا التسليم لله في قضائه وقدره، والثقة بأن وراء كل حدث يبدو شراً قد تكمن رحمة وخير عظيم.
1. خرق السفينة: كان لحمايتها من ملك ظالم يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، فالعيب البسيط أنقذها من المصادرة الكاملة. 2. قتل الغلام: لأنه كان مقدراً له أن يكبر ويصبح كافراً ويرق والديه المؤمنين طغياناً وكفراً، فأراد الله أن يبدلهما بمن هو خير منه. 3. بناء الجدار: لأنه كان تحته كنز لغلامين يتيمين، وكان أبوهما صالحاً، فأراد الله أن يحفظ لهما كنزهما رحمة بهما وبصلاح أبيهما.